منجم السكري 2016

كل فترة نقرأ أخبارًا مثل هذه في الصحف: "سلطات قرية البضائع بمطار القاهرة الدولي تتخذ إجراءات مشددة لسفر عدد من طرود الذهب القادمة من منجم السكري في طريقها إلى كندا لتنقيتها وبيعها في بورصات لندن للذهب." آخر هذه الأخبار كان قبل 6 أيام، حيث بلغ الوزن الإجمالي للطرود 322 كيلوغرامًا. يعني كل فترة هناك مئات الملايين من الدولارات تتجه نحو كندا ولندن.

ولكن أين تذهب هذه الثروات؟ ولماذا لا نراها؟ دعونا نفهم القصة سويًا.

خلفية عن الذهب في مصر

مصر تحتوي على 130 منطقة غنية بالذهب وفقًا لأقدم خريطة جيولوجية فرعونية في التاريخ، تعرف باسم "خريطة الفواخير"، وحاليًا تُسمى "بردية تورينو للذهب" وتعرض في متحف مصر القديمة بمدينة تورينو الإيطالية. تم رسم هذه الخريطة على ورقة بردي في سنة 1200 قبل الميلاد في عهد الملك سيتي الأول. وبعد ذلك تم اكتشاف 270 موقعًا للذهب في جميع أنحاء مصر.

بدأ التعدين الحديث للذهب في مصر سنة 1903 عندما تم تسجيل أول عقد لاستغلال المناجم مع شركة "شركة الاستكشاف المصرية". تلاها في عام 1905 عقد مع شركة "وادي النيل المتحدة"، ومن ثم في عام 1906 عقد مع شركة "مصر والسودان". كانت هذه الشركات في الغالب تحت هيمنة الإنجليز، رغم أسماء الشركات المصرية.

ظهر "جبل السكري" كأكبر مخزون للذهب عرفه المصريون في التاريخ. دخلت الحكومة المصرية في العمل فيه بقوة سنة 1938 وأسمته "منجم الذهب الحكومي". استمر استخراج الذهب منه حتى سنة 1950 عندما أمر الملك فاروق بإيقاف العمل فيه.

أسباب إيقاف العمل في منجم السكري

تم الإعلان عن سببين لإيقاف العمل في المنجم، وكلاهما يثير الضحك بالنظر إلى وضعنا الحالي:

السبب الأول: حسب التحليل الفني لرئيس هيئة المساحة الجيولوجية السابق الدكتور أحمد دردير، تكلفة الاستخراج في ذلك الوقت فاقت قيمة الذهب المستخرج، لأن الجنيه المصري حينها كان أغلى من الجنيه الذهب نفسه. كانت قيمة الجنيه الذهب تساوي 97.5 قرشًا مصريًا. الآن، يساوي الجنيه الذهب 264 دولارًا، أي ما يعادل 4752 جنيهًا مصريًا.

السبب الثاني: وفقًا لثلاثة مستندات تعود لعهد الملك فاروق، كانت مصر تمتلك أكبر غطاء نقدي ذهبي في العالم. قال الملك فاروق عن المنجم: "أغلقوه فهذا حق الأجيال القادمة!" وتم نشر الخبر في أول جريدة مصورة مصرية باسم "اللطائف المصورة".

تاريخ التعدين الحديث للذهب في مصر

في عهد جمال عبد الناصر، تم طرد الشركات الأجنبية المنقبة عن الذهب، وتم تأميم أي شركة مصرية تعمل في هذا المجال. وبالتالي توقف استخراج الذهب بالكامل من سنة 1954 حتى 1977 في عهد السادات. ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية، عُرضت عملية استخراج الذهب على عدة شركات، لكن فعليًا لم يبدأ أحد.

في عام 1984، تم ضم "هيئة المساحة الجيولوجية" المشرفة على المناجم والثروات الطبيعية إلى "وزارة البترول". وأول قرار اتخذته الوزارة كان توقيع عقود شراكة لتقاسم الأرباح بينها وبين شركات التعدين، سواء مصرية أو أجنبية، بشرط جاهزية الشركة وقدرتها المالية والخبرة اللازمة.

قصة شركة "سنتامين ليمتد" الأسترالية

في ذروة الأحداث، ظهر على السطح تعاقد جديد لشركة أجنبية اسمها "سنتامين ليمتد" لمالكها سامي الراجحي، وهو أسترالي من أصل مصري. قصة هذه الشركة كبيرة ولا تزال مستمرة، ولكن سنحاول اختصارها لأقصى حد.

سامي الراجحي، شاب مصري تخرج من كلية العلوم قسم جيولوجيا سنة 1968 وسافر إلى أستراليا واشتغل في مجال التعدين هناك. تدرج في المناصب حتى أسس شركته "سنتامين ليمتد". وبعد حوالي 30 سنة عاد إلى بلده مصر كرجل أعمال وملياردير أسترالي قوي.

عرض على الحكومة المصرية الشراكة لاستخراج المعادن، وكان أول عرض لمعدن "اليورانيوم"، ولكن بسبب مشاكل فنية وروتينية وأمنية مع "هيئة الطاقة الذرية" تم تحويل المشروع إلى إقامة منجم ضخم في "جبل السكري" تحت مدينة مرسى علم بـ 30 كيلومترًا.

عقد الشراكة بين الحكومة المصرية وسنتامين

في سنة 1994، تم التوقيع على عقد شراكة بين الحكومة المصرية وشركة "سنتامين ليمتد"، حيث تتقاسم الشركة الأسترالية "الأرباح فقط" بنسبة 50% مع الحكومة. ولكن هذه "الأرباح" هي كلمة مطاطية، لأنها تأتي بعد خصم جميع المستحقات من أبحاث وتشغيل ونقل وتسويق، وبأسعار تفرضها الشركة نفسها. الشركة بدأت العمل في الأبحاث وتجهيز المعدات من سنة 1994 حتى سنة 2010، وهي السنة التي شهدت أول إنتاج لأول سبيكة ذهب.

الجدل والأزمات

حصلت أزمات كثيرة خلال هذه الفترة بسبب إجحاف الاتفاقية لحق مصر في ذهبها، بالإضافة إلى المساحة الهائلة من الأرض التي أخذتها الشركة الأسترالية كحق انتفاع والتي وصلت إلى 3000 متر طول × 500 متر عرض. الذهب في هذه المنطقة يُستخرج من التربة السطحية، فما بالك بالباطن؟

تم اللجوء للتحكيم والقضاء عدة مرات، ولكن عندما تولى سامح فهمي منصب وزير البترول، سهل الأمور لصالح الشركة الأسترالية، مثلما حدث مع عقود تصدير الغاز لإسرائيل بأسعار زهيدة. ليس هذا فقط، بل استحوذت الشركة الأسترالية على أكبر شركة لاستخراج الذهب في مصر وهي "الشركة الفرعونية للمناجم"، وأصبحت مسئولة عن أعمال الخدمات المساندة مثل توريد العمالة والمواد وخلافه.

نصيب مصر الفعلي في هذه الاتفاقية لا يتعدى 3% إلى 8% من كامل ما يتم استخراجه من الذهب، لأن نصيب الشركة الأسترالية من الربح والتشغيل والاستخراج والشحن للخارج يأكل الـ 97% المتبقية، حسب تقرير سابق لجريدة الجمهورية.

رد الفعل الشعبي

هل سكت المصريون؟ نعم، لكن بعد ثورة يناير 2011، لم يسكتوا. عمال المنجم خرجوا بمطالب فئوية مثل غالبية الشعب وقتها، فكُشفت الفضائح المدفونة.

ظهرت اتهامات بتهريب الذهب للخارج وشراء الذهب من البدو الذين ينقبون حول المنطقة، وبيع الذهب لنفس الشركة الأسترالية. انتشرت رسالة مطولة على الفيسبوك من العمال تتحدث عن هذه الأمور، ومعها بعض الفيديوهات المسجلة، فقلبت مواقع التواصل الاجتماعي رأسًا على عقب وتم تأسيس عشرات الصفحات التي تطالب بحق المصريين في ذهبهم المنهوب.

ردًا على ذلك، تم رفع قضية من قِبل المهندس حمدي الفخراني، عضو مجلس الشعب، ضد الشركة الأسترالية وطلب بطلان العقد. وبالفعل، بعد سنتين حكمت المحكمة بالبطلان. وكانت هناك آمال كبيرة لمستثمرين مصريين لبدء الاستثمار في مجال التعدين في الذهب.

تطورات القضية

استأنف سامي الراجحي الحكم، ومعه شقيقه العميد عصمت الراجحي، مدير عام الأمن والعلاقات العامة بالمنجم، لأن أسهم الشركة انخفضت بنسبة 57% بسبب هذه الخلافات.

وفي الأوضاع الحالية في مصر، حصلت الشركة الأسترالية على حكم في يونيو الماضي بوقف بطلان الاتفاقية. بالطبع، قليل من الصحف نشر هذا الحكم، سواء كانت قومية أو مستقلة، وتم التعتيم على الموضوع. المثير للسخرية أن المهندس حمدي الفخراني، الذي كان قد رفع القضية، مسجون حاليًا في قضايا أخرى تتعلق بمعارضة النظام. لكن الخبر الذي نُشر كفرحة كبرى للمصريين كان في 22 أكتوبر 2016، حيث تم الإعلان عن أول اقتسام أرباح لذهب المنجم منذ 20 سنة!

هل القصة تستحق كل هذا الجدل؟

نعم، تستحق بكل تأكيد. وفقًا لتقرير حكومي نشرته اليوم السابع، فإن منجم السكري يستعد ليكون من أكبر 25 منجمًا في العالم، ويحتوي على احتياطي ذهب يُقدر بـ 15.7 مليون أوقية، وسيتم تعدين 1300 طن من الذهب بقيمة تتجاوز 50 مليار دولار. ستأخذ مصر 200 مليون دولار من الشركة كل سنة ولمدة 20 سنة، وهو عمر التعدين. يعني مصر ستأخذ 4 مليارات دولار من أصل 50 مليار دولار.

الحلول الممكنة

الحل هو أن تبدأ مصر في استخراج ذهبها بنفسها عبر شركات مصرية. الآن، لدينا العمالة المدربة بشكل أكبر مما كان عليه الوضع في السابق، وأولهم هم العاملون حاليًا في منجم السكري الذين لا يتعدى راتبهم 3000 جنيه والأدنى 1500 جنيه، بينما الخبير الأجنبي يتقاضى 20 ألف دولار شهريًا حسب باحث اقتصادي مصري زار المنجم. كما يجب إيجاد بديل مصري من مصانع لتنقية الذهب من الشوائب، والتي تكلف الكثير في المصانع الكندية حسب اتفاقية منجم السكري، ومن ثم تصدير الذهب لبورصة لندن.

الخلاصة

قصة منجم السكري هي واحدة من مئات قصص سوء الإدارة والفساد الحكومي في مصر. الحقيقة أن مصر ليست فقيرة، بل هي غنية بثروات طبيعية هائلة، على رأسها الثروات المعدنية وفي مقدمتها الذهب. ولكن حرب المصالح والروتين وانعدام الرؤية المستقبلية تمنعنا من الاستفادة منها. على سبيل المثال، دول الخليج لديها مورد واحد وهو النفط وأصبحت من أغنى دول العالم، أما نحن فلم نستفد حتى الآن من الثروات الموجودة فوق سطح الأرض ولا تحتها، سواء كانت طبيعية أو بشرية!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال