اليابان، لو أخذناها من ناحية الجغرافيا والموقع، تعد من أسوأ الأماكن على وجه الأرض من حيث الاستغلال البشري. نص أراضيها لا يصلح لأي نوع من الاستغلال بسبب الجبال والبراكين، ومعظم جزرها الـ 6852 لا تحتوي على ثروات طبيعية تذكر، إلا القليل من السمك واللؤلؤ. الزلازل تحدث بشكل متكرر، وآخرها في عام 2011 تسبب في كارثة تسرب نووي بعد إعصار تسونامي دمر أربعة مفاعلات نووية. بمعنى آخر، اليابان بلد مليء بالتحديات الطبيعية.
ومع ذلك، اليابان اليوم تعد ثالث أكبر اقتصاد في العالم بإجمالي ناتج قومي يصل إلى 4.843 تريليون دولار، متفوقة على معظم دول العالم، ما يثير التساؤل: كيف استطاعت هذه الأمة تحقيق هذا الإنجاز بالرغم من ظروفها الطبيعية الصعبة؟
القصة من البداية:
قبل حوالي 400 سنة، كانت اليابان تعيش فترة حكم تعرف بفترة "إيدو"، وهي فترة حكم إقطاعي حيث كان الإمبراطور أو الوصي على الإمبراطور يحكم البلاد مع طبقة من المحاربين (الساموراي) ونبلاء ورجال دين يستفيدون من دماء الطبقات الدنيا. اليابان في تلك الفترة كانت منغلقة تمامًا على نفسها ولم تتواصل مع العالم الخارجي، ما أدى إلى فقر الشعب واستمرار الثورات.
ثم جاءت فترة "مييجي"، حيث تمكن الإمبراطور من القضاء على حكام الإقطاعيين (الشوغونات) وأسس فترة جديدة قائمة على التسليح العسكري والتوسع الاستعماري. بروح الساموراي، تمكن اليابانيون من بناء جيش قهر الإمبراطورية الروسية واستولوا على كوريا في بداية القرن العشرين.
التوسع والاستعمار:
مع مرور الزمن، توسعت اليابان لتصل إلى أجزاء واسعة من آسيا، لكنها واجهت نهاية مدمرة في الحرب العالمية الثانية بعد أن ضربتها الولايات المتحدة بقنبلتين نوويتين. بعد الحرب، احتلتها الولايات المتحدة وأدارتها بقيادة الجنرال دوجلاس ماك آرثر الذي قرر عدم محاكمة الإمبراطور الياباني هيروهيتو حفاظًا على الاستقرار.
التحول الاقتصادي:
بعد الحرب، قاد رئيس الوزراء هاياتو إيكيدا خطة تحول اقتصادي، تعتمد على دعم المشاريع الصغيرة وتشجيع الاقتراض الزائد بشروط ميسرة، مما ساهم في بناء اقتصاد قوي. نظام الجودة الشاملة أصبح معيارًا للصناعات اليابانية، وركزوا على الصناعات الثقيلة ثم التكنولوجيا.
استطاعت اليابان شراء عقود تقنية من أمريكا بقيمة 17 مليار دولار، وكان من بين أولى تلك العقود تقنية الراديو الترانزستور التي طورتها شركة سوني لتصبح رائدة عالميًا.
الأزمة والانتعاش:
في الثمانينيات، بدأت اليابان تعاني من ارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب زيادة قيمة العملة، وتزايدت التحديات مع ظهور منافسين جدد مثل الصين ودول النمور الآسيوية. برغم التحديات الاقتصادية، اليابان ظلت تقاوم وتحافظ على مكانتها كقوة اقتصادية كبرى، حتى أنها استطاعت تخطي العديد من الأزمات مثل أزمة الفقاعات الاقتصادية في الثمانينات.
التحديات والمستقبل:
اليابان واجهت تحديات كبيرة مثل المافيا اليابانية (الياكوزا) وخسائر الشركات الكبرى، لكن رغم كل ذلك، تعاملت مع هذه التحديات بحكمة وذكاء. اليابان كانت دومًا تجد حلولًا لتجنب الانهيار وتحقيق النمو المستدام.
في الوقت الحاضر، بالرغم من تحديات الركود الاقتصادي والتنافس مع الدول الأخرى، تبقى اليابان واحدة من أكبر الاقتصاديات في العالم، بفضل الإبداع والتطوير المستمر.
الخلاصة:
تجربة اليابان الاقتصادية هي تجربة فريدة من نوعها لأنها لم تعتمد فقط على الموارد الطبيعية، بل على الإرادة والتخطيط الاستراتيجي، واحترام العمل والتعليم. اليابان استطاعت تحويل التحديات إلى فرص، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن أن نتعلمه منها.
وإذا كان هناك شك في القدرة على تطبيق تجربة اليابان في أي مكان آخر، يكفي أن نتذكر أن اليابان بلد يواجه مخاطر طبيعية مستمرة، ومع ذلك استمر في الاستثمار في التعليم والبنية التحتية والابتكار، مما جعلها واحدة من أقوى الدول اقتصاديًا في العالم.